الخير و الشر
|
عبد الكريم هرواش
|
في إحدى معارك ثنائي الخير والشـر الدائمة منذ بداية الوجود، جلس الشـر تحت ظل شجـرة ضخمة مستكينًا هادئًا بعد أن أصابه عياء شديد من عراك الخير الأبدي في ذلك اليوم المضني، ولا نتيجـة إلى حد الآن توَصّلا إليها من عراكهما الطاحن المستمر يمكن أن تحسم بينهمـا، وما يزالا كذلك..
وحينما رأى الخيرُ الشـرَّ جالسا في أناة وسكون بعد أن خرج من مواجهته على ساحة المعركة وعلى محياه أمارات الهدوء والمسالمة، وقد سكت عنه غضبه وانفرجت أساريره المنقبضـة، ارتسمت على وجهه دهشـة كبيرة، فاقترب منه مذهولا لا يكاد يصدق ما تراه عيناه.. ثم سأله عن سبب خروجه من النزال قبل أن تنتهي المعركة في شيء من التعجب والاستغراب، فنظر إليه الشر نظرة لطيفـة مبتسمًا ثم أجابه بعد طول تفكير وتأمل قائلا :
- يا أخـي الخيـر.. لقد سئمت من منازلتك بحكم أن عداءنا كان منذ الأزل وما يـزال.. سئمت؛ لأنني قطعت أنا وإياك هذه المدة كلهـا في العداء الدائم والعراك المستمر وما زالت النتيجة بيننا متعادلـة.. ولا أخالك إلا مدركًا أن كل فعل نكرّره كثيرًا يصيبنا الملل منه حتى وإن كان ذلك الفعل في خدمة مبادئنا ومصالحنـا.. وما تراني إلا وقد أصابني ملل شديد، أقعدني اليوم، وربما أبدًا، عن منازلتك !!..
ازدادت دهشـة الخير كثيـرًا.. وقبل أن يترك له الشر فرصـة للكلام أضاف قائلًا :
- لقد استمررنا في عراكنا لزمن طويل جـدًا فلم أغلبك ولم تغلبنـي.. وبقينا نتأرجح في سماء الوجود كالليل والنهار، يومًا تعلو عليّ ويوما أعلو عليـك.. إننا نتسابق في دائـرة ليس لها خط نهايـة، فيومًا تسبقني ويومًا أسبقك.. وهـذا دأبنا منذ أن وُجدنـا في هـذه الحياة..
وبذلك فكرت كثيرًا يا أخي الخيـر، فرأيت أنه من الأفضل لي ولك أن نتوقف عن قتال بعضنا البعض، وننسى ما كان بيننـا من عداء وخصومـة، مادام في الأخير لا يمكن أن يتغلب أي واحد منا على الآخر وحالتنا هذه.. ورأيت أيضًا أن قتالنا نحن الاثنان كقعودنا تمامًا، لا يختلف عنـه بحال من الأحوال.. فنحن كائنان في هذه الحيـاة، وسنبقـى سواء تعاركنا أم قعدنا، سواء تخاصمنا أم تصالحنا..
إني رأيت أيضًا أن الإنسان في حاجة إلينا كلانـا كما يحتاج إلى النور والظلام، هذا المخلوق الضعيف الذي يتأرجح بيني وبينك آلاف المرات في اليوم الواحد، فآونة يميل إلـيّ وآونة أخرى إليك.. ولم تخـلُ حياته منذ أن وُجد مني ومنكَ..
وإني لأستطيع أن أتصور حياته بالمستحيلـة إذا خلا أحدنا منهـا؛ فلا يمكن أن تستمر حياة إنسيّ دون أن يكون أحدنا على يساره والآخر على يمينه؛ يقوده أحدنا في الطريق المعوج ويضلّه، ويحاول الآخر استقامته وهدايته.. يغريه أحدنا ويأمره بالباطل وينسيه الحق، وينصحه الآخر ويذكّره بالحق وينهاه عن الباطل..
اعلم بأنه لا يعقل أن يعيش الإنسان أو أي مخلوق على وجه هذه الأرض بزعامة أحدنا دون الأخر، بل بسيادتنا كلانا، وإلا أصبحت الحياة بلا معنـى.. بل ربما توقفت واندثرت واندحرت.. فنحن منذ الأزلِ اللذان جعــلا الحياة تستمـر.. ولولانا ما وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من قطعهـا لدهور كثيرة وما تزال..
نظرتُ فرأيت أنه لابد أن نكون كلانا في هذه الحياة حتى تستمر بشكل عادي ولا يختل توازنها.. فالميزان إذا فقد إحدى كفتيه اختل توازنه إلى الأبد.. وهكذا نحن ككفتي الميزان تمامًا، ما يغلب أحدنا الآخر إلا ليخسر في لحظة أخرى.. وأحيانا نتساوى ونتعادل.. ولعمري ما انتصر أحدنا نهائيا.. وساد في هذا الوجود سيادة أزليـة.. فهل تعلم ما يحلّ بهذه الحياة المستقرة لو قـتَل أحدنا الآخر؟
ثم يا أخي الخير إني شبهت كلانا بالنور والظلام.. فقد يسود الظلام لمدة معينـة ثم يعقبه النور.. ويسود النور ثم يعقبه الظلام.. تخيل لو أن الظلام هو الكائن وحده في هذه الحياة كيف ستكون النتيجـة؟ ونفس الشيء للنور.. والأمر نفسه بالنسبة لي كشر وبالنسبة لك كخيـر..
وفي الأخير يا أخي، من أجل حياة متوازنـة ومستمرة وعاديـة، وقبل كل شيء من أجلنا نحن اللذان ما عرفنا راحـة في هذا الوجود، فتـرانا نتعارك ليل نهار عبثـًا دون أن نصل إلى نتيجـة، أتراك ما زلتَ تريد أن نواصل عراكنـا ونكلف نفسينا أضرار هذا العراك الوخيمـة، ونرهق من أمرنا عسرًا ؟
توقف الشر عن الكلام في انتظار إجابة من الخير الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة وقد انفرجت أساريره وانبسطت.. وذهب عن وجهه ما كان مستحوذًا عليه من الغضـب والقسوة.. ونظر إلى الشر نظرة طويلـة ثم أجابه قائلا :
- لا أبـدًا..
ثم هز رأسه مقتنعًا و مؤيدًا لكل ما نطق به الشـر واستطرد :
- أعترف أنك صدقت في كل ما قلته يا أخي.. صدقت.. لنتوقف عن قتال بعضنا البعض من اليوم فصاعـدًا ونتصالح.. ولننسَ عداءنـا .. فذلك أفضل لنـا من إتعاب نفسينا فيما لا طائل من ورائه.. ولنجعلٍ الحياة يسيـرة وعادية كما هي..
قال كلامه ثم اقترب منه في أناة وتؤدة وعانقه عناقًا حميما طويلا، وجلس إلى قربـه يتأملان الحياة في صمت وسكون، وقد ارتسمت على شفتيهما ابتسامة الهناء و الرضى !
|
|
|
عبد الكريم هرواش /الناظور- المغرب (2011-09-02) |
Partager
|
تعليقات:
|
خالد البدوي
/المغرب |
2011-09-05 |
كاني بالخير عليا كرم الله وجهه.وكاني بالشر معاوية.وكاني بالنص صفينااخرى ضاقت بالتاريخ اوضاق بها التاريخ فتلمست الحكمة والادب....لقد كانت الحبكة تشي باشياءاكبر ايها المبدع الثر.غير انك استسلمت في النهاية لما تاسس لديك من البديهي والمسلم.لكم احسدك على هذه الفجاة الجميلة.واعترف لقد انست النار التي مكثنا لاجلها طويلا.هنيئا لنا بك اذن..
|
البريد
الإلكتروني : bitissam_sousou@hotmail.fr |
ابروح
/شفشاون |
2011-09-03 |
القصة الازلية ذات اسلوب سردي جميل بلفظ الغائب ولغة فصيحة تقترب من الحكمة القديمة وتتلمس المقامة وتتوسل بالتشبيهات والرموز منحها كل تلك الغرائبية والاسطورية لكن تظل فكرة الشر خدعة لان الخير كان سينتصر وربما قريبا واظن ان الانسان هو مخير في افعاله ولا تملص فلسفي منها فالعناق الطويل هو الذي جعل شهوة الغريزة ورشد العقل في توازن منتظر
|
البريد
الإلكتروني : aboroh @hotmail.fr |
حسن بوهدو
/وزان/ المغرب |
2011-09-03 |
لو كان الخير هو الذي طلب من الشر أن يتصالح معه ,لقلنا أن نيته حسنة..ولكن لماالشر هو الذي بادر الى التصالح .. فلايجب تصديقه أبدا,ربما تكون مجرد خدعة شيطانية!!!ولقد كذب الشر كذبة/ باينا/ عندما قال للخير:( أن الانسان في حاجة الينا كلانا!!!)...
|
البريد
الإلكتروني : hassanbouhadou@hotmail.fr |
nahla
/maroc |
2011-09-02 |
لقد تصالح الخير والشر أخيرا فهل يتصالح بنو أدم.ترى احيانا نمادج تجاوزت الشر الى ما لا نهاية.......قصتك جميلة اتمنى لك المزيد من التألق والازدهار...
|
البريد
الإلكتروني : nahlajedlaoui@yahoo.com |
|
أضف
تعليقك :
|
|
الخانات * إجبارية |
|